الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{رَبّكُمَا} خطاب مع الإنس والجن يعدد عليهما النعم بل على الإنسان وحده ثانيها: أنه بيان فضل الله تعالى على الإنسان، حيث بين أنه خلق من أصل كثيف كدر، وخلق الجان من أصل لطيف، وجعل الإنسان أفضل من الجان فإنه إذا نظر إلى أصله، علم أنه ما نال الشرف إلا بفضل الله تعالى فكيف يكذب بآلاء الله ثالثها: أن الآية مذكورة لبيان القدرة لا لبيان النعمة، وكأنه تعالى لما بين النعم الثمانية التي ذكرها في أول السورة، فكأنه ذكر الثمانية لبيان خروجها عن العدد الكثير الذي هو سبعة ودخولها في الزيادة التي يدل عليها الثمانية كما بينا وقلنا إن العرب عند الثامن تذكر الواو إشارة إلى أن الثامن من جنس آخر، فبعد تمام السبعة الأول شرع في بيان قدرته الكاملة، وقال: هو الذي خلق الإنسان من تراب والجان من نار: (فبأي آلاء) الكثيرة المذكورة التي سبقت من السبعة، والتي دلت عليها الثامنة: (تكذبان) وإذا نظرت إلى ما دلت عليه الثمانية وإلى قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ فَبِأَيِّ ءَالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 29، 30]، يظهر لك صحة ما ذكر أنه بين قدرته وعظمته ثم يقول: فبأي تلك الآلاء التي عددتها أولًا تكذبان، وسنذكر تمامه عند تلك الآيات.رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18).وفيه وجوه أولها مشرق الشمس والقمر ومغربهما، والبيان حينئذ في حكم إعادة ما سبق مع زيادة، لأنه تعالى لما قال: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] دل على أن لهما مشرقين ومغربين، ولما ذكر: {خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 3، 4] دل على أنه مخلوق من شيء فبين أنه الصلصال الثاني: مشرق الشتاء ومشرق الصيف فإن قيل: ما الحكمة في اختصاصهما مع أن كل يوم من ستة أشهر للشمس مشرق ومغرب يخالف بعضها البعض؟ نقول: غاية انحطاط الشمس في الشتاء وغاية ارتفاعها في الصيف والإشارة إلى الطرفين تتناول ما بينهما فهو كما يقول القائل في وصف ملك عظيم له المشرق والمغرب ويفهم أن له ما بينهما أيضًا الثالث: التثنية إشارة إلى النوعين الحاصرين كما بينا أن كل شيء فإنه ينحصر في قسمين فكأنه قال: رب مشرق الشمس ومشرق غيرها فهما مشرقان فتناول الكل، أو يقال: مشرق الشمس والقمر وما يغرض إليهما العاقل من مشرق غيرهما فهو تثنية في معنى الجمع.{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19)} وفيه مسائل:المسألة الأولى:في تعلق الآية بما قبلها فنقول: لما ذكر تعالى المشرق والمغرب وهما حركتان في الفلك ناسب ذلك ذكر البحرين لأن الشمس والقمر يجريان في الفلك كما يجري الإنسان في البحر قال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] فذكر البحرين عقيب المشرقين والمغربين ولأن المشرقين والمغربين فيهما إشارة إلى البحر لانحصار البر والبحر بين المشرق والمغرب، لكن البر كان مذكورًا بقوله تعالى: {والأرض وَضَعَهَا} [الرحمن: 10] فذكر هاهنا مالم يكن مذكورًا.المسألة الثانية:{مَرَجَ}، إذا كان متعديًا كان بمعنى خلط أو ما يقرب منه فكيف قال تعالى: {مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ} [الرحمن: 15] ولم يقل: من ممروج؟ نقول: مرج متعد ومرج بكسر الراء لازم فالمارج والمريج من مرج يمرج كفرح يفرح، والأصل في فعل أن يكون غريزيًا والأصل في الغريزي أن يكون لازمًا، ويثبت له حكم الغريزي، وكذلك فعل في كثير من المواضع.المسألة الثالثة:في البحرين وجوه أحدها: بحر السماء وبحر الأرض ثانيها: البحر الحلو والبحر المالح كما قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا عَذبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] وهو أصح وأظهر من الأول ثالثها: ما ذكر في المشرقين وفي قوله: {تُكَذّبَانِ} إنه إشارة إلى النوعين الحاصرين فدخل فيه بحر السماء وبحر الأرض والبحر العذب والبحر المالح، رابعها: أنه تعالى خلق في الأرض بحارًا تحيط بها الأرض وببعض جزائرها يحيط الماء وخلق بحرًا محيطًا بالأرض وعليه الأرض وأحاط به الهواء كما قال به أصحاب علم الهيئة وورد به أخبار مشهورة، وهذه البحار التي في الأرض لها اتصال بالبحر المحيط، ثم إنهما لا يبغيان على الأرض ولا يغطيانها بفضل الله تعالى لتكون الأرض بارزة يتخذها الإنسان مكانًا وعند النظر إلى أمر الأرض يحار الطبيعي ويتلجلج في الكلام، فإن عندهم موضع الأرض بطبعه أن يكون في المركز ويكون الماء محيطًا بجميع جوانبه، فإذا قيل لهم: فكيف ظهرت الأرض من الماء ولم ترسب يقولون لانجذاب البحار إلى بعض جوانبها، فإن قيل: لماذا انجذب؟ فالذي يكون عنده قليل من العقل يرجع إلى الحق ويجعله بإرادة الله تعالى ومشيئته، والذي يكون عديم العقل يجعل سببه من الكواكب وأوضاعها واختلاف مقابلاتها، وينقطع في كل مقام مرة بعد أخرى، وفي آخر الأمر إذا قيل له: أوضاع الكواكب لم اختلفت على الوجه الذي أوجب البرد في بعض الأرض دون بعض آخر صار كما قال تعالى: {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} [البقرة: 258] ويرجع إلى الحق إن هداه الله تعالى.المسألة الرابعة:إذا كان المرج بمعنى الخلط فما الفائدة في قوله تعالى: {يَلْتَقِيَانِ}؟ نقول قوله تعالى: {مَرَجَ البحرين} أي أرسل بعضهما في بعض وهما عند الإرسال بحيث يلتقيان أو من شأنهما الاختلاط والالتقاء ولكن الله تعالى منعهما عما في طبعهما، وعلى هذا يلتقيان حال من البحرين، ويحتمل أن يقال: من محذوف تقديره تركهما فهما يلتقيان إلى الآن ولا يمتزجان وعلى الأول: فالفائدة إظهار القدرة في النفع فإنه إذا أرسل الماءين بعضهما على بعض وفي طبعهما بخلق الله وعادته السيلان والالتقاء ويمنعهما البرزخ الذي هو قدرة الله أو بقدرة الله، يكون أدل على القدرة مما إذا لم يكونا على حال يلتقيان، وفيه إشارة إلى مسألة حكمية وهي: أن الحكماء اتفقوا على أن الماء له حيز واحد بعضه ينجذب إلى بعض كأجزاء الزئبق غير أن عند الحكماء المحققين ذلك بإجراء الله تعالى ذلك عليه وعند من يدعي الحكمة ولم يوفقه الله من الطبيعيين يقول: ذلك له بطبعه، فقوله: {يَلْتَقِيَانِ} أي من شأنهما أن يكون مكانهما واحدًا، ثم إنهما بقيا في مكان متميزين فذلك برهان القدرة والاختيار وعلى الوجه الثاني: الفائدة في بيان القدرة أيضًا على المنع من الاختلاط، فإن الماءين إذا تلاقيا لا يمتزجان في الحال بل يبقيان زمانًا يسيرًا كالماء المسخن إذا غمس إناء مملوء منه في ماء بارد إن لم يمكث فيه زمانًا لا يمتزج بالبارد، لكن إذا دام مجاورتهما فلابد من الامتزاج فقال تعالى: {مَرَجَ البحرين} خلاهما ذهابًا إلى أن يلتقيان ولا يمتزجان فذلك بقدرة الله تعالى.ثم قال تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} إشارة إلى ما ذكرنا من منعه إياهما من الجريان على عادتهما، والبرزخ الحاجز وهو قدرة الله تعالى في البعض وبقدرة الله في الباقي، فإن البحرين قد يكون بينهما حاجز أرضي محسوس وقد لا يكون، وقوله: {لاَّ يَبْغِيَانِ} فيه وجهان أحدهما: من البغي أي لا يظلم أحدهما على الآخر بخلاف قول الطبيعي حيث يقول: الماءآن كلاهما جزء واحد، فقال: هما لا {يَبْغِيَانِ} ذلك وثانيهما: أن يقال: لا يبغيان من البغي بمعنى الطلب أي لا يطلبان شيئًا، وعلى هذا ففيه وجه آخر، وهو أن يقال: إن يبغيان لا مفعول له معين، بل هو بيان أنهما لا يبغيان في ذاتهما ولا يطلبان شيئًا أصلًا، بخلاف ما يقول الطبيعي: أنه يطلب الحركة والسكون في موضع عن موضع.{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)} وفيه مسائل:المسألة الأولى:في القراءات التي فيها قرئ {يخرج} من خرج و{يخرج} بفتح الراء من أخرج وعلى الوجهين فاللؤلؤ والمرجان مرفوعان و{يخرج} بكسر الراء بمعنى يخرج الله و{نخرج} بالنون المضمومة والراء المكسورة، وعلى القراءتين ينصب اللؤلؤ والمرجان، {اللؤلؤ} كبار الدر و{المرجان} صغاره وقيل: المرجان هو الحجر الأحمر.المسألة الثانية:اللؤلؤ لا يخرج إلا من المالح فكيف قال: {مِنْهُمَا}؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن ظاهر كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس الذي لا يوثق بقوله، ومن علم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من المالح وما وجدوه إلا فيه، لكن لا يلزم من هذا أن لا يوجد في الغير سلمنا لم قلتم: أن الصدف يخرج بأمر الله من الماء العذب إلى الماء المالح وكيف يمكن الجزم والأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم ثانيهما: أن نقول: إن صح قولهم في اللؤلؤ إنه لا يخرج إلا من البحر المالح فنقول: فيه وجوه أحدها: أن الصدف لا يتولد فيه اللؤلؤ إلا من المطر وهو بحر السماء ثانيها: أنه يتولد في ملتقاهما ثم يدخل الصدف في المالح عند انعقاد الدر فيه طالبًا للملوحة كالمتوحمة التي تشتهي الملوحة أوائل الحمل فيثقل هناك فلا يمكنه الدخول في العذب ثالثها: أن ما ذكرتم إنما كان يرد أن لو قال: يخرج من كل واحد منهما فأما على قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} لا يرد إذ الخارج من أحدهما مع أن أحدهما مبهم خارج منهما كما قال تعالى: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] يقال: فلان خرج من بلاد كذا ودخل في بلاد كذا ولم يخرج إلا من موضع من بيت من محلة في بلدة رابعها: أن (من) ليست لابتداء شيء كما يقال: خرجت الكوفة بل لابتداء عقلي كما يقال: خلق آدم من تراب ووجدت الروح من أمر الله فكذلك اللؤلؤ يخرج من الماء أي منه يتولد.المسألة الثالثة:أي نعمة عظيمة في اللؤلؤ والمرجان حتى يذكرهما الله مع نعمة تعلم القرآن وخلق الإنسان؟ وفي الجواب قولان: الأول: أن نقول: النعم منها خلق الضروريات كالأرض التي هي مكاننا ولولا الأرض لما أمكن وجود التمكين وكذلك الرزق الذي به البقاء ومنها خلق المحتاج إليه وإن لم يكن ضروريًا كأنواع الحبوب وإجراء الشمس والقمر، ومنها النافع وإن لم يكن محتاجًا إليه كأنواع الفواكه وخلق البحار من ذلك، كما قال تعالى: {والفلك التي تَجْرِى فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس} [البقرة: 164] ومنها الزينة وإن لم يكن نافعًا كاللؤلؤ والمرجان كما قال تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12] فالله تعالى ذكر أنواع النعم الأربعة التي تتعلق بالقوى الجسمانية وصدرها بالقوة العظيمة التي هي الروح وهي العلم بقوله: {عَلَّمَ القرءان} [الرحمن: 2] والثاني: أن نقول: هذه بيان عجائب الله تعالى لا بيان النعم، والنعم قد تقدم ذكرها هنا، وذلك لأن خلق الإنسان من صلصال، وخلق الجان من نار، من باب العجائب لا من باب النعم، ولو خلق الله الإنسان من أي شيء خلقه لكان إنعامًا، إذا عرفت هذا فنقول: الأركان أربعة، التراب والماء والهواء والنار فالله تعالى بين بقوله: {خَلَقَ الإنسان مِن صلصال} [الرحمن: 14] أن الإنسان خلقه من تراب وطين وبين بقوله: {خَلَقَ الجان مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ} [الرحمن: 15] أن النار أيضًا أصل لمخلوق عجيب، وبين بقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} أن الماء أصل لمخلوق آخر، كالحيوان عجيب، بقي الهواء لكنه غير محسوس، فلم يذكر أنه أصل مخلوق بل بين كونه منشأ للجواري في البحر كالأعلام.فقال: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)}. اهـ.
.قال القرطبي: قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان}.لما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير من السماء والأرض، وما فيهما من الدلالات على وحدانيته وقدرته ذكر خلق العالم الصغير فقال: {خَلَقَ الإنسان} باتفاق من أهل التأويل يعني آدم.{مِن صَلْصَالٍ كالفخار} الصلصال الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة، شبهه بالفَخَّار الذي طبخ.وقيل: هو طين خلط برمل.وقيل: هو الطين المنتن من صَلَّ اللحمُ وأَصلَّ إذا أنتن؛ وقد مضى في (الحجر).
|